قوات الجرادل الدولية

أخيرا زارني النعاس بعد أن حسبته ضاق بي ذرعا ولن يمنحني مزيدا من لحظاته الرائعة، زارني أخيرا بعد ليلة كبيسة جربت خلالها كل مشهيات النوم من كمبيوتر وقصص ولب وسوداني ولكن دون جدوى، وبينما أنا في حالة نقاش محتدمة مع صديقي المقرب -السيد ملل- وبعد انتهاء صلاة الفجر أخذني النوم على غفلة وطرح عيني أرضا وسحب رموشي بهدوء شديد نحو بعضها البعض حتى عانقتا بعضهما بسلام.

"الحقوووووووووونا يا نااااس البيت بيولع يا لاهوووووووووووووووي يا خرااااااااابي" هكذا نمت وهكذا استيقظت بعد أن حصدت من النوم القليل استيقظت على صراخ وعويل، انتفضت بسرعة فارتطمت رأسي في إطار النافذة بشكل أسرع، لم أشعر بألم الخبطة من هول الموقف، فتحت النافذة فإذ بي أجد امرأة على مشارف العقد الخامس من عمرها مكشوفة الشعر أعرفها معرفة سطحية وإن كانت تجمعها بأمي علاقة أقوى نسبيا، قمت بتضييق حدقة عيني قدر المستطاع حتى يتسنى لي استبيان معالم الموقف خاصة وأن نظارتي الطبية ما زالت تقبع على الطاولة منذ أن تركتها البارحة، المهم نجحت محاولاتي المتتالية لتوضيح معالم المشهد الذي أمامي فوجدت حريقا في بهو العمارة المواجهة لنا مباشرة وبسطحها يوجد رجل وابنتاه وقد استنفدوا كل محاولاتهم لعبور المنزل المجاور دون جدوى فلم يجد الرجل أمامه سوى حل أخير وهو الاستغاثة: "يا ناس الحقونا الله يخليكم البيت بيولع حد يكلم المطافي أنا وولادي هنموت".

استمررت في التحديق لهذا المشهد العجيب ولهذه التفاصيل الإنسانية التي لا يشاهدها الإنسان كل يوم إلى أن لطمتني هذه السيدة في رأسي بكلمة واحدة أفاقتني من حالة التوهان و"الازبهلال" التي دائما ما تصاحبني عقب الاستيقاظ من السبات الليلي أو كما يحلو لي أنا سميتها بالإغمائات المتقطعة نظرا لأنها دائما ما يتخللها فواصل من مياه وحمام والذي منه، فقالت لي هذه السيدة: إنت نااااايم..، لم تقل أكثر من هذه الكلمة ولكنها حملت من المعاني ما يكفي ويفيض؛ إنها تطلب مني المساعدة وتلومني في الوقت ذاته على سلبيتي بينما هي وأهلها تحترق، لم يستغرق مني القرار سوى ثوانٍ معدودة وقررت الانضمام لقوات الجرادل الدولية للإطفاء فسحبت جردلنا الأحمر زاهي اللون وأغرقته بالمياه وهبطت به سلالم المنزل وبدأت في التعامل مع الموقف.

توجهت نحو البناية المحترقة مرتديا في قدمي حذاء الحماسة وقمت بإلقاء أول دفعة من الماء على الدخان بما أنني لم أتمكن من اكتشاف مصدر الحريق بالضبط وعدت لأملأها مرة وأخرى وهكذا وهكذا وكل هذا ولم أرَ أي أثر للنيران بل مجرد دخان.. وفي إحدى المرات التي اقتادتني فيها قدماي بسرعة تجاه النيران التي لا أراها شعرت بشلال من المياه المنهمر فوق أم رأسي فطغى ذلك على إحساس الرماد والدخان الذي كان يغرقني حتى أنفي وشعرت عوضا عن ذلك وكأني "مهند" في إعلان سيراميكا رويال، فنظرت بعيني إلى أعلى بعد أن أزحت عنهما الماء فوجدت امرأة عجوزا شعثاء ممسكة بجردل أرجواني اللون وتقول بصوت بغيض: "ياللا يا ستات ساعدوا رجالتكم وطفوا الحريقة" ومن الواضح أنها لم تدرك بعد وهي في الثمانين من عمرها أنها في حاجة إلى نظارة طبية كي تميز بين الحريق والمارة في الطريق.

عدت مرة أخرى كي أملأ جردلي بالمياه فلاحظت نساءً يرتدين جلابيب سوداء منهن من هم أمهات ومنهن من هن شابات في عمر الزهور يولولن ويصرخن ويلطمن فانقبض قلبي وعلمت على الفور أن لهم من قضى نحبه بين أفرع النيران الملتهبة.

بعد لحظات وصلت أخيرا سيارة المطافئ التابعة لإدارة الدفاع المدني كي تنقذ الموقف فسجدت لله بقلبي شكرا له على أمل أن يكون من بين براثن هذه النيران من لا يزال الهواء يغزو صدره، رحت أراقب تحركات السيارة إلى أن توقفت وهبط منها ضابط وعسكري وعلامات "الزهق، والقرف" تكسو وجوههم وحركتهم بطيئة لدرجة شعرت معها أنه أتى كي يحمل الجثث وليس كي ينقذ من هو على مشارف الموت، استمر الضابط في خطاه متجها نحو النساء اللائي كنّ يولولن وسألهم بنبرة مقتضبة: "إيه اللي حصل؟" فقالت: "القطن اللي كنا بننجّد بيه الأنتريه راح يا باشا واتحرق يا خراااابي راااح يا باشا رااااح".

قطن!! كل هذا الصراخ والعويل وقوات جرادل صاعدة وقوات جرادل هابطة والمتوفى قطن!!! أفزعوني من نومي من أجل شوية قطن لم تمتد نيرانها لأكثر من مترين في بهو العمارة!!! آه يا ولاد الـ.........